عندما تتحول تونس إلى بلد الضّعفاء
شاقّة هي مهنة الصّحافي ولعّلها تصبح مخيفة إن أصرّ المسكين على أدائها في دولة لم تعد قادرة على حمايته ولا على حماية صغارها وكبارها ودينارها أيضا. وبات من الواضح اليوم أنّنا نشهد انزلاقا تونسيّا نحو هوّة سحيقة يسقط فيها كلّ شيء: المبادئ، حقوق الطّفل، مستوى التّعليم، أداء الحكومة، الخطاب السّياسي، الوعظ الدينيّ، الثّقافة، الشّعور بالأمن، القدرة الشرائيّة… والقائمة طويلة.
هي مرحلة ثورة، يقول البعض، أو مرحلة ما بعد الثّورة، يردّ عليهم الآخرون. والثورات لها ثمنها وهو باهظ جدّا. ومن لا يعرف الثّورات، عليه أن يقتني لنفسه تذكرة طائرة ويحلّ بيننا على الرّحب والسّعة، وسنصطحبه في جولة سياحيّة إلى مدينة الرّقاب بمحافظة سيدي بوزيد (وسط البلاد)، وهناك سنستضيفه بضعة أيّام للاستمتاع بالثّقافة وببحبوحة العيش، كما يراها المتشدّدون.
ولمن فاته خبر مدينة الرّقاب؛ الرّقاب هي واحدة من مناطق تونس المهمّشة التّي يمرّ عليها السّياسيون في خطبهم المدويّة وهم يتراشقون بأصابع الاتّهام. الرّقاب هي تلك المنطقة النّائية التي تتوفر على كل ما يجعل منها بيئة مثاليّة لمن كان يريد العبث بعيدا عن أعين النّاس. باختصار، الرّقاب ليست قرطاج وبما أنّها ليست قرطاج فمن عساه أن يهتمّ بها.
أمّا من فاته ما كان يحدث في الرّقاب، فالخبر يقول إنّ مدرسة “عجيبة” تمّ إغلاقها منذ أيّام بعد أن تبيّن أنّها معسكر صغير لتكوين وتدريب أطفال على “جهاد النّفس” وتحمّل الاعتداء الجنسي وتقوية جهاز المناعة بالصّبر على عدد من الأمراض الجلديّة والقلبيّة والتنفّسيّة.
الخبر أيضا يقول إنّ دولتنا وبعد الفضيحة المدويّة والكشف المتأخّر عمّا كان يدور وراء أسوار المعسكر الجهاديّ، كانت قد سلّمت الأطفال لذويهم وهي مطمئنّة وواثقة بأن لا سوء قد يمسّهم بعد اليوم. وهنا نتساءل: ألم يكن هؤلاء الآباء هم من سلّموا أبناءهم لمعسكر الرّقاب؟ أليسوا هم من أهملوهم ولم يكلّفوا أنفسهم حتّى عناء السّؤال عن حالهم وأحوالهم؟ وهل يعتقد مسؤولو دولتنا أنّ مثل هؤلاء الآباء لن يعيدوا الكرّة؟
هي أسئلة استنكاريّة وإجاباتها معلومة خاصّة بعد مشاهدتنا لعمليّة “التّسليم والتسلّم” وكأنّنا بالأطفال في هذا البلد صاروا كالكرة تركلها مراكز حماية الطفولة وتتلقّفها أيدي المتشدّدين لترمي بها مجدّدا في أتون التعصّب، وربّما في موقد الجهاديّة والعمليّات الإرهابيّة في وقت لاحق.
أمّا الآن وقد تمّ “التسليم والتسلّم” فهل سيرضى على دولتنا هؤلاء الذّين وضعوا أيديهم على مؤسّساتها وروّجوا لنا خلطة الدّين بالسّياسة؟ بصريح العبارة، هل سترضى علينا حركة النّهضة بعد أن أرضت قواعدها المتشدّدة ومن دانوا لها بالطّاعة؟
أن ترضى حركة النّهضة على الحكومة ومؤسّسات الدّولة فذاك أمر مفرغ منه. أمّا رضاؤها عنّا، فذاك أمر لم نطلبه ولن يتحقّق لأنّنا مازلنا نصرّ على حقّ الطّفل في العيش الكريم ولأنّنا مازلنا نريد العقاب لمن اعتدى وأساء المعاملة وتجاوز القانون.
وإن تأخّر العقاب أو لم يتحقّق فلن يصمت الصحافيّ ولن يجفّ قلمه. فمن كانت حياته نسيجا من قضايا النّاس لن يتحرّج ولن يتوانى متى حاول المتعصّبون التّلاعب بالأحداث والخروج عن السّياق. والقضيّة وإن موّهوا ودفعوا بها إلى سوق البيع والشّراء خوفا على حظوظهم البائسة في الانتخابات القادمة تبقى قضيّة اعتداء وسوء معاملة في حقّ أطفال لا ذنب لهم.
وقد يكرّرون على مسامعنا مئة مرّة “مدرسة”، ولكنّنا سنعيدها على مسامعهم ألف مرّة “ثكنة”. وإن تعلّلوا بحفظ القرآن وتدريس الدين، فسنذكّرهم مرارا أنّ القرآن والدّين براء ممّا فعلوا. وقد يعتقد البعض منهم أنّها فرقعة إعلاميّة وقد يظنّ البعض الآخر أنّها مجرّد مادّة سنتركها متى ضجر القرّاء، لكنّنا لن نفعل وسنعود في كلّ مرّة لنذكّرهم ونذكّر من خانته الذّاكرة أنّ الدّولة سلّمت أبناءها حطبا لنيران التطرّف.
ونهاية، ليست مهنة الصحافيّ وحدها شاقّة فنحن نحبّها وإن جارت علينا ظروفها ومشاغلها ولكنّ الأشقى هو أن نؤدّيها اليوم في بلاد لم تعد قادرة على حماية مواطنيها صغارا وكبارا. والأشقّ في كلّ هذا هو أنّنا لم نعد نرجو الكثير ولكننا نحلم بالكثير الكثير، بوطن آمن يحيا فيه الجميع بسلام
المزيد ...
المزيد ...
المزيد ...
المزيد ...