رأي
الجمعة 27 ديسمبر 2019 03:14 مساءً

أقلام السلطة الرابعة والخوف من التعبير عن الرأي

محمد مرشد عقابي

 

سيكمل العالم ثلاثمائة وخمسون سنة بمطلع العام 2020م عن مانيفيستو حرية التفكير والتعبير الذي كتبه الفيلسوف الشهير سبينوزا في كتابه رسالة في اللأهوت والسياسة سنة 1670م وإن لم يكن هو الأول في الدفاع عن هذا الحق الإنساني الطبيعي فقد سبقه الكثيرين، بيد أن طرحه جاء في سياق البحث الفلسفي المتعمق المهتم بدراسة الدولة والقوى السياسية وحقوق المواطن والدين وحدوده وعلاقته بالسياسة والتفكير الحر...إلخ، وقد تبنت هذا الحق فيما بعد جملة من الدساتير الحديثة في دول العالم والسبق كان للولايات المتحدة الأمريكية في دستورها المعدل عام 1791م حيث نصت إحدى مواده بعدم السماح لمجلس الشيوخ بسن قانون يحد من حرية التعبير وعلى طول هذه المساحة الزمنية الشاسعة كتب ونادى مفكرون وأدباء وناشطون وسياسيون من مختلف أنحاء العالم حول ضرورة هذا الحق وإدانة من يصادره أو يضعفه حتى أصبح في الوقت المعاصر من الموضوعات المقدسة عند الجميع يمينيون ويساريون، ولم تعد ثمة حاجة للدفاع عنه وبخاصة في عصر السوشيال ميديا التي وظفت بشكل أساس لهذا الغرض وحتى لقب مؤسس أكبر منصة تواصلية في العالم فيسبوك مارك زوكر بأنه الكاهن الأكبر لحرية التعبير عن الرأي، وزعم في خطاب له حديث بأنه يريد أن يدافع عن التعريف بحرية التعبير بأكبر قدر ممكن مع تحفظاتنا الكبيرة على هذا الرجل وعلى منصته وكلمته إلا أن الفترة المعاصرة لم تشهد اية مرحلة زمنية في تأريخ البشرية مماثلة لإمكانية التعبير عن الرأي مثلما شهدته المرحلة الحالية، ذلك إذا احتكمنا الى مقاييس السرعة والإتساع والسعر مضافاً إلى رفع يد الرقابة عن ما يطبع والتحفيز العالي، تكتب أينما كنت ليلاً أو نهاراً وبأي موضوع ومضمون وبلمسة واحدة يصل إلى المئات والآلاف وربما الملايين، فهل تعيش حرية التعبير حالياً بتعافٍ؟ وهل نتمتع نحن الصحفيون المناصرون لها بممارستها حقيقةً؟ أم أن عوامل قمع حرية التعبير التقليدية لا زالت قائمة وقد أضيف إليها نفس الوسائل الحديثة المسخرة للتعبير بحرية تكنولوجيا التواصل الاجتماعي حيث امست هي الأخرى تهدد الحرية عينها حسب ما يصرح أكثر من كاتب ومثقف عالمي؟! ما يخص الحالة الصحية لحرية التعبير فهي تعيش في غيبوبة مقلقة بحسب تقدير الكثيرين قد يتخللها بين الحين والآخر حالة صحو لا تلبث لثوانٍ معدودة، وما يصدر عنها في قسم كبير هو يمكن وصفه بهذيان الغائب عن الوعي أو مذكرات لحقب قديمة أيام اليقضة، وبالنسبة إلى العوامل التقليدية فيقصد بها غياب القانون الذي يحمي المواطن من سطوة أصحاب السلطة مثل الإقصاء والإبعاد القسري والتهميش وخطر فقدان مصادر الرزق فيما لو صححت سلوكاً مهنياً صرفاً بحكم التخصص والتجربة والإلتزام بمدونة السلوك التي قسمت على تطبيقها إلى جانب المبادئ الأخلاقية التي تؤمن بها وتسعى لمزاولتها في ميدان محاربة الفساد في الحياة وفي أضعف الحالات تضطرك الظروف المريضة أن تسكت وأن تخنق ومضات أفكارك وملاحظاتك ومشاعرك من أجل المحافظة على رتابة الإيقاع المعتاد داخل المؤسسة التي تعمل فيها بل وحتى داخل مجموعة صغيرة من أصدقاء شبكات التواصل خشية مواجهتهم بما لا يرغبون في قراءته حيث يلزمك لمواصلة حياتك المهنية والإجتماعية أن تحترف المداجاة والمداهنة والمنافقة وإلا فما أسهل الحصول على العقوبات المؤلمة وقرار الحذف والمغادرة، والأصعب أن قيم تثمين التضحية من أجل المبادىء السامية قد أصابتها لوثة التشويه فبدلاً من مكافأة أصحاب المواقف الجريئة في التعبير عن الرأي من أجل الصالح العام يقوم الوسط القريب بمعاقبة نفس المضحين على أعمالهم الجريئة بشتى أساليب العقاب النفسي والمعنوي والمادي، وما أسهل أن يشغل موقعك أشخاص آخرين فيما لو خسرته بسبب الجهر بالرأي الجريء من قبل أشخاص آليين وأن تعيش دون أن يشعر الآخرون بحضورك في مجتمع تتعرض فيه القيم الأساسية إلى انتهاك فضيع، وهذا ما يدفعنا بشدة إلى إعادة النظر في قراءة هذا الحق الفطري وتأصيله قانونياً واجتماعياً في حياتنا، فإهمال معالجته سوف يرجعنا إلى محطات مظلمة من تأريخنا البشري وعن إسهام وسائل تكنلوجيا التواصل في ضعضعة حرية التعبير فلن نحتاج إلى الإطالة في الإستدلال على هذه المسألة المحسوسة من قبل اغلب الناس ويكفي أن تجرب بنفسك عبر نقد أداء سياسي او عمل إداري او منظومة فساد أو حتى شخصية ذات نفوذ اجتماعي بالرغم مما تسببته تلك الشخصية من كوارث على المجتمع لترى ماذا سوف يحصل لك مما يعرف بالجيوش الإلكترونية من تهديد وشتم واذى.

شخصياً كنت استغرب من مواقف بعض النخب الإعلامية الجنوبية المرموقة إزاء ما حدث بالجنوب في السنوات التي سبقت عام 2015م من تصدعات ناتجة عن السياسة التدميرية الممنهجة التي مارسها نظام الإحتلال اليمني، فقد نسجت هذه الفئة صمتاً حيال الواقع المتدهور حينها والمتجه بسرعة عالية نحو المجهول، ولم تسجل مواقفاً ذات أثر إيجابي تجاه تلك التصدعات، ولم أجد تفسيراً مقنعاً إلا في العوامل المشار إليها سلفاً كالمداهنة والمداجات والمنافقة من أجل إرضاء سلطات ذلك النظام القمعي المستبد، او إيثار العافية والتفرج عن بعيد، إلا أنني أكتشفت فيما بعد أن الأسباب الحقيقية لا تختصر في العامل النفعي بل في سبب أقوى وأوضح لمن يمارس عملية طرح آراء متناقضة مع المشاريع والشخصيات السياسية والإجتماعية والدينية البارزة في مجتمعنا حيث تفتح عليهم أبواب من الشر المنظم ويتعرضون إلى اساءة تفقدهم الكثير من أرصدة السمعة الرفيعة التي كانوا قد أنفقوا أعمارهم على حصولها والأقبح من جميع ذلك هو الإعتداء الجسدي عليهم من خلال القتل والتعذيب والمطاردة والملاحقة والإعتقال وذلك عبر تحريض وسائل نشر حرية التعبير المعاصرة كما يزعم أصحابها وكأن منصات التواصل الإجتماعي قد خلقت لخنق حرية التعبير ومسخه فقد تحولت هذه الحرية الثمينة جداً إلى أداة رخيصة لنشر الكراهية وتمجيد المجرمين وإشاعة الفوضى وسحق القيم النبيلة في الحياة بالعكس من غاياتها الإنسانية الشريفة في إحياء موروثات الحوار العام بين الشعوب وبين الإنسان نفسه، فمن الضروري معرفة أن حرية التعبير ليست هدفاً بحد ذاته بقدر ما هي وسيلة لخلق حوار عام والدعوة المخلصة إلى المشاركة فيه بغية البحث عن الحقيقة واستيلادها من وسط تصادم الأفكار تارة وتواصلها مع بعضها البعض الآخر تارة أخرى مع الإلتزام بأخلاقيات الحوار القاضية حسب قول المفكر البريطاني جون ستيوارت بإدانة كل شخص بغض النظر عن الجهة التي يقف فيها إذا كانت طريقة إستدلاله تفتقر إلى الصدق والنزاهة أو كانت تتوسل بالتعصب والخبث والجشع في التعبير، لكننا لا يمكن إستخلاص هذه الرذائل لمجرد أن وجهة نظره تتعارض معنا، فتصادم الآراء لن تثمر عنه اي فائدة دون المحافظة على أخلاقيات وآداب الحوار، وحرية التعبير عن الرأي ليست في خطر في الوقت المعاصر بقدر ما أن حرية الحوار نفسها في خطر حسب رأي الفيلسوفة الهولندية دان روفيرس وهذا ما يتطلب من أنصار الحرية المشار إليها أن يقفوا بوجه القوى الكبيرة المستفيدة اقتصادياً وسياسياً من المشاركين في تكنولوجيا التواصل عبر الدفع المحموم باتجاه الكذب والتضليل والأغواء والجريمة والتعصب والغش والعداء وعدم التعرض إلى قادة الشر ورموز الفساد هنا وهناك من خلال الجيوش المجندة لمهاجمة كل صاحب رأي سديد يمس مصالحهم، فمن دون استعادة الحوار والإلتزام بضمير اخلاقي بالتعامل معه فلن نرى هناك ثمة سلم إجتماعي ولن ترتفع نسب التعليم والوعي والثقافة ولن تخلق فرص التقارب بين الشعوب ولن ينحسر الفقر في العالم ولن تتوقف الهجرات الجماعية بسبب الحروب المدمرة ولن تنتصر مشاريع الحفاظ على الكوكب الأرضي من المخاطر البيئية وغيرها من المخاطر التي تنهش هذا الكوكب بين الحين والآخر، لذا علينا إعادة مضمون الحساب ومراجعة المواقف ودراستها بإستفاضة وحكمة دون المجازفة او المغامرة في إتخاذ قرارات مصيرية تبنى عليها مواقف تكون إرتجاليه متسرعة وتعود بالإساءة على سلطتنا الرابعة التي تتعرض اليوم واكثر من الأوقات السابقة لحملات تضييق ومعاقبة على كل رأي مطروح فيها.

جميع الحقوق محفوظة لـ [عدن لنج] ©2024
تطوير واستضافة
YOU for information technology