مجتمع مدني

التبرع بالأعضاء.. حياة الآخرين ليست مهمة في المجتمعات #العربية

السبت 09 مارس 2019 10:20 صباحاً عدن لنج_آمنة جبران

تزدحم المستشفيات العربية بمرضى القصور الكلوي وأمراض القلب وغيرها من الأمراض التي تحتاج زرعا للأعضاء من قبل متبرعين لإنقاذ المرضى ومنحهم فرصة الحياة من جديد. وعلى الرغم من أن التبرع بالأعضاء عمل إنساني نبيل يدعمه القانون في تونس مثلا ويراه الكثير من رجال الدين عملا صالحا، إلا أن الإقبال عليه لا يزال ضعيفا.

والتبرع بالأعضاء هو قبول الشخص بإزالة أي عضو من أعضائه، بطريقة قانونية، إما عن طريق الموافقة إذا كان المتبرع على قيد الحياة أو بعد الوفاة مع موافقة الأقرباء، وقد يكون التبرع للبحوث، وإما أن يتم التبرع بالأعضاء والأنسجة المزروعة الأكثر شيوعا والتي يمكن زرعها في شخص آخر.

ويتردد المواطن العربي في قبول التبرع بأعضائه، وهو يدرك أنه عمل نبيل، إذ أنه ينقذ روحا بشرية من الموت ومع ذلك لا يتحمّس له. وقد تكون دوافع هذا التردد نفسية مخافة أن تتدهور صحته بعد عملية التبرع، وقد يكون لغياب التشجيع على التبرع وهنا تقع المسؤولية على عاتق الدولة ووزارة الصحة تحديدا. لكن مهما اختلفت الدوافع يواجه المشرفون على هذا العمل الإنساني تحدي إقناع المجتمع بأن هذه العملية آمنة ليصلوا إلى هدفهم المنشود وهو إنقاذ الآلاف من المرضى الذين هم على قائمة الانتظار.

ومقارنة بالغرب تكاد تكون ثقافة التبرع بالأعضاء منعدمة في العالم العربي. وفيما أشارت دراسة علمية في ألمانيا إلى زيادة استعداد الألمان للتبرّع بالأعضاء بعد الموت وقد أيد البرلمان الألماني (بوندستاغ) في يناير الماضي بصورة قوية خطط وزير الصحة ينس شبان الخاصة بجذب عدد أكبر من المواطنين للتبرع بالأعضاء، وبالمثل تخطط بريطانيا لزيادة عدد من يتبرعون بأعضائهم وذلك عن طريق تغيير قواعد القبول وافتراض الموافقة على التبرع بالأعضاء ما لم يصرح المرء بالرفض، فإن إحصائيات محلية في دول عربية تكشف عن امتناع واسع عن عمليات التبرع.


سجلت آخر الإحصائيات المحلية في تونس عزوفا كبيرا عن التبرع بالأعضاء. وأشارت الإحصائيات إلى أن 77 بالمئة من التونسيين يقبلون مبدأ التبرع بالأعضاء بعد الوفاة لكن دون تنفيذ ذلك فعلا، حيث ترفض 90 بالمئة من العائلات فكرة التبرع بأعضاء موتاها. وقد توقفت زراعة القلب في تونس منذ عام 2011 لعدم وجود متبرع في حالة وفاة دماغي.

ويجيز القانون التونسي الصادر عام 1991 التبرع بالأعضاء ويشترط في المتبرع أن “يكون رشيدا سليم المدارك العقلية متمتعا بالأهليّة القانونيّة الكاملة وأن يكون رضاه صريحا وصادرا عن اختيار. كما يجوز أخذ عضو من جثة شخص ميت لغاية علاجية أو علمية ما لم تحصل ممانعة من الهالك في حياته أو بعد وفاته من الأشخاص المقربين له”.

وأكد طاهر كركاح، رئيس المركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء (مؤسسة حكومية) في تصريحات لـ”العرب” صحة الأرقام الأخيرة حول التبرع. وقال كركاح “وجدنا رفضا من العائلات يتجاوز 90 بالمئة وهذا الرقم مخيف.” وأوضح بقوله “وزارة الصحة توفر كل ما يتطلب لنجاح مثل هذه العمليات وهناك نوعان: زرع الأعضاء والتبرع بالأعضاء وتقام فقط في المستشفيات العمومية المتحصلة على ترخيص من الوزارة”.

وأضاف “نستطيع أن نوفر كل شيء لضمان نجاح العملية لكن ما الفائدة من ذلك إذا لم نجد متبرعا.”

وحسب كركاح يوجد 10500 مريض تونسي يخضعون لتصفية الدم وبحاجة للتبرّع، وهو رقم مفزع وما يقارب 1500 مريض ينتظر زراعة كلية في المركز الوطني للنهوض بزرع الأعضاء.

وبالنسبة إلى مرضى القلب والكبد فحالاتهم الصحية هي الأخطر لأنهم سيموتون بسرعة إذا لم يقع زرع أعضاء جديدة لهم. ويؤكد كركاح حاجة وزارة الصحة التونسية في السنة إلى 50 عملية زراعة القلب، وبالنسبة للكبد إلى 200 و250 عملية. ويوجد على قائمة الانتظار أيضا بين 20 و30 مريضا سنويا بحاجة إلى زراعة رئة بينما يكاد ينعدم المتبرعون الأحياء والأموات.

وبالنسبة لعملية زرع الكلى، فإن عدد المرضى على قائمة الانتظار بلغ سنة 2018، 1416 مريضا منهم 1365 مريضا بين فئات الكهول والشباب وكبار السن و51 طفلا، وبلغ عدد عمليات زرع كلية في تونس العام الماضي 78 عملية فقط.

لكن بخصوص زراعة القرنية، فإن الأرقام الأخيرة تبعث على التفاؤل، إذ بلغ عدد عمليات الزرع 994 عملية عام 2018 وهي نسبة جيدة باعتبار أن عدد المرضى على قائمة الانتظار لا يتجاوز 1270 مريضا، غير أن إقبال الأجانب على التبرع في هذا المجال يفوق عدد المتبرعين التونسيين الذي لم يتجاوز 335.

ويحمّل كركاح مسؤولية عزوف التونسي عن التبرع إلى ضعف التوعية والتشجيع، مشيرا إلى إعداد وزارة الصحة استراتيجية جديدة تشرك فيها المجتمع المدني وكل الوزارات لأنها ليست مشكلة صحية فقط بل هي مشكلة مجتمع وهي معنية بتجذير هذه الثقافة لدى الناشئ.

وأشار إلى ضرورة تطوير وسائل التوعية من خلال دعم إعلامي، واستعادة ثقة المواطن في المؤسسات الصحية العمومية من خلال تحسين الخدمات الصحية. وأضاف أن “زراعة الأعضاء هي وسيلة من وسائل العلاج ونحن بحاجة إلى تضامن اجتماعي.”

ويشكو قطاع الصحة العمومية في تونس مثل عدد آخر من القطاعات العمومية، من تدني الخدمات وترهل البنية التحتية إلى جانب النقص في عدد الأطباء لاسيما في المستشفيات البعيدة عن العاصمة والمناطق الساحلية، مما أسهم في تراجع الثقة فيها، الأمر الذي انعكس على عملية التبرع، وهو ما يفسّره التباعد الكبير في رؤية المواطن، بين الموافقة عليه (التبرع) كمبدأ مع الإحجام عليه كفعل.


يجمع خبراء علم الاجتماع على أن العزوف مرده غياب ثقافة التبرع في العالم العربي، على عكس الغرب الذي يخصص له دعاية هامة مما أدى إلى تحسن النظرة العامة للتبرع. ففي ألمانيا بدت الآراء إيجابية تجاه التبرع بالأعضاء وبلغت نسبة 84 بالمئة مؤخرا على نحو غير مسبوق. ورغم هذا التقدم إلا أن الأصوات تتعالى بالمطالبة بوضع قواعد جديدة للتبرع والاقتداء في ذلك بدول أوروبية مجاورة. فقد أقرت هولندا مثلا قانونا ينص على تسجيل كافة المواطنين فوق سن الـ18 على أنهم متبرعون بأعضائهم عقب الوفاة، إلا في حال رفضوا ذلك صراحة.

أما في المنطقة العربية فهناك هواجس تحول دون الإقدام على التبرع بالأعضاء ولا تتعلق فقط بضعف المنظومة الصحية بل بتراجع التضامن الاجتماعي والعطاء الإنساني مع تعقد الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، في حين تغفل الحكومات عن دورها التوعوي في هذا المجال.

ويرى عبدالستار السحباني، أستاذ علم اجتماع في تصريح لـ”العرب”، أن “السبب الأساسي والرئيسي أنه ليس لدينا ثقافة التبرع بالأعضاء كما أن السلطات لم تقم بتحفيز المواطن على التبرع، زد على ذلك أن وسائل الإعلام لا تعطي قيمة لهذه المسألة وأيضا وزارة التربية لا تبرمجها في المقررات الدراسية، وحتى أهل الثقافة والفن فقد غابت إبداعاتهم في هذا المجال”.

ويعتقد السحباني أن الرؤية الدينية والسياسية غير واضحة، حيث لا توجد خلفية دينية جازمة أو فتاوى أو إجراء يشجع التونسي على الإقبال على التبرع بالشكل الكافي.

وأضاف “هناك سبب آخر وهو استشراء الفساد بسبب حوادث سرقة وتحيّل قادت إلى فقدان الثقة والأمثلة كثيرة في هذا الخصوص وبالتالي لم يعد التبرع بالأعضاء يحمل بعدا إنسانيا بل تحول إلى بعد تجاري ومالي.”

ويتفق رأي السحباني مع رأي حبيب الرياحي المختص في علم الاجتماع والذي أكد أن ضعف التبرع هو نتيجة لغياب ثقافة التبرع. وأضاف الرياحي لـ”العرب” أن “المجتمع يسير وفق أنماط ثقافية مستبطنة من منظومة دينية لا تحث على التبرع بالأعضاء، فهناك عائلات عند موت أحد أفرادها بحادث ترفض ضمنيا التشريح الطبي لتحديد أسباب الوفاة لكن تجدها مجبرة من جهة، ومن جهة ثانية التونسي ليس سخيا أحيانا حتى مع أفراد عائلته حتى وإن كانت المسألة مسألة حياة أو موت، فبالنسبة له حياته أهم”. ويرجع الرياحي ذلك إلى قيم الفردانية التي طغت على روح الجماعة وهذا دليل على تنشئة اجتماعية داخل الأسرة لم تؤسس لفكرة التضامن والتضحية في سبيل الآخر وتنشئة اجتماعية تولي أهمية لقيم التآزر.

وتتباين آراء رجال الدين حول التبرع بين من يرفضه مبررا ذلك بمخافة التلاعب بجسد وحرمة الميت، وبين من يدعمه ويرى أنه عمل إنساني خالص وعمل صالح ينال عليه فاعله أجرا.


وشرح الشيخ بدري المدني، الباحث التونسي في الفكر الإسلامي لـ”العرب” الموقف الديني عن هذه المسألة. ورأى أنه “لا يجب النظر إلى قضية التبرّع بالأعضاء من زاوية تقليدية قديمة ولا من زاوية دينية بحتة بل لا بد من تناولها من زوايا تشريعية وإنسانية وطبيّة ومالية، فهذا موضوع فيه خلاف بين العلماء: منهم مَن أجازه، ومنهم مَن توقَّف فيه، ومنهم من منعه جملة وتفصيلا ومنهم من أباحه من الحي إلى الحي خاصة في زرع الكلى وغير ذلك مما يضمن حياة المتبرّع.”

ويعتقد المدني أنه وقع منعه خشية الاتهام بالمثلة، كونه يتبرع بكليته أو بقلبه إذا مات أو بيده أو برجله وكأنه يمثّل بالجثة التي جاء الشرعُ بالنَّهي عنها. وبعض العلماء من أفتى بذلك عند الموت، إذا أوصى بذلك، أنه لا حرج في ذلك.”

ويتابع أن “مسألة التبرع بالأعضاء محل نظر وتأمل ديني والأحوط عندي السماح بهذا الأمر بشروط مراعاة الضوابط لعلّ أبرزها حريّة الاختيار، فالجسد ملك الله وملك صاحبه مع ضرورة التقيّد بالبعد المقاصدي الذي هو جوهر الدين.”

نماذج إيجابية
عملية التبرع بالأعضاء رغم محدوديتها في العالم العربي، إلا أن الحكومات تسعى، رغم صعوبة إقناع المواطن، إلى نشر هذه الثقافة.

وهناك نماذج إيجابية عن ذلك. فقد أعلنت وزارة الصحة الكويتية العام الماضي، أن الكويت هي الأولى عربيا في نسبة المتبرعين بالأعضاء بعد الوفاة حسب صحف محلية، وهي أول دولة خليجية أجرت عمليات لزراعة الكلى في المنطقة، وتمت في فبراير عام 1979، وهي السباقة أيضا بين دول الشرق الأوسط إذ تجرى فيها بين 80 و100 عملية سنويا.

وفي الإمارات عرضت جامعة محمد بن راشد للطب والعلوم الصحية في مدينة دبي الطبية أواخر يناير الماضي فيديو أول وثاني عن عملية تبرع وزراعة للأعضاء والتي تمت في عام 2017 وذلك تزامنا مع إطلاق وزارة الصحة ووقاية المجتمع للمنصة الإلكترونية لتسجيل الرغبة في التبرع بالأعضاء “حياة” خلال معرض ومؤتمر الصحة العربي “آراب هيلث 2019” المقام بدبي.

وتسلّط المشاهد التي تضمنها الفيديو الضوء على أول عملية تبرع وزراعة متعددة لأعضاء متبرع متوفى في الإمارات بتاريخ 15 يوليو عام 2017، حيث تبرع المتوفى بخمسة أعضاء ساهمت في إنقاذ خمس أرواح. فيما أجريت ثاني عمليات التبرع والزراعة المتعددة في الإمارات في 23 سبتمبر 2017 حيث تم إجراء 4 عمليات زرع ناجحة ساهمت في إنقاذ 4 أرواح.

وفي المغرب سجلت نسبة 43 بالمئة من العدد الجملي لعمليات زرع الأعضاء في الأعوام الأخيرة، وحقق المغرب إنجازات هامة في مجال زرع الأعضاء والأنسجة على المستوى العربي والمغاربي، فضلا عن مبادراته لترسيخ هذه الثقافة إعلاميا واجتماعيا، لكن رغم ذلك لا يزال عدد المتبرعين بعيدا عن تلبية الحاجة المتزايدة من الأعضاء والأنسجة الكفيلة بإنقاذ الحالات التي تعج بها المستشفيات.


وتقف الصعوبات المادية أمام نشر ثقافة التبرع في دولة مثل السودان. وأوضح الكاتب والمدون السوداني أسامة النور عبدالسيد لـ”العرب” أنه “توجد مراكز لغسيل الكلى في العاصمة السودانية وبعض المدن الأخرى لكنها لا تكفي.. فهناك مستشفيات تخصصية في الخرطوم ولكنها تفتقد للإمكانيات والتكنولوجيا وأيضا للمعدات الحديثة كما أن الأدوية مرتفعة الأسعار.”

ويشير عبدالسيد إلى أن ثقافة التبرع مقتصرة فقط على أقارب المريض، لذلك يلجأ الكثير من المرضى إلى الخارج وخصوصا مصر بالدرجة الأولى.

وتحيط بعملية التبرع بالأعضاء في المنطقة العربية شكوك بسبب استشراء تجارة الأعضاء إضافة إلى مخاوف من استدراج المتبرع للتحيّل عليه وبيعه أعضائه. وسبق أن كشفت جمعية “حركة أطباء ضد الفساد التونسية” في تصريحات لوسائل إعلام محلية عن تلقيها شكاوى من مواطنين تضرروا من فقدان أعضاء بشرية في مصحات خاصة.

وتجارة الأعضاء منتشرة في المنطقة العربية والعالم. ووفقا للتقديرات الصادرة عن منظمة الصحة العالمية لعام 2015، فإن هناك أكثر من 10 آلاف عملية بيع وشراء للأعضاء البشرية في السوق السوداء سنويا، وما بين 5 و10 بالمئة من جميع عمليات زراعة الكلى على مستوى العالم تتم عبر عمليات الاتجار والتهريب عبر الحدود، مشيرة إلى أن تلك التجارة تحقق أرباحا سنوية تتراوح بين 600 مليون دولار و1.2 مليار دولار، في حين تشير تقديرات أخرى إلى أنها تصل إلى 8 مليارات دولار سنويا.

واعتبر فاضل بوضيافي، نائب رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان في تصريح لـ”العرب”، أن “مثل هذه الممارسات والجرائم تحرم المريض من إنقاذه حياته وتسيء للعمل الإنساني وتشوّه روح التبرع في المجتمع.

المزيد في مجتمع مدني
تعادل ناشئي نادي حسان وناشئي نادي المنصورة بهدف لكل فريق في المباراة الودية التي جمعتهم اليوم على أرضية ملعب الفقيد علي أحمد العلواني بمديرية المنصورة بالعاصمة
المزيد ...
عقد رئيس الهيئة التنفيذية للقيادة المحلية للمجلس الانتقالي الجنوبي بمحافظة حضرموت، بمقر الهيئة في المكلا، اليوم الأحد، لقاءً موسعاً مع بعثة فريق نادي قشن الرياضي
المزيد ...
  غيّر موقع التدوين المصغر "تويتر"، الاثنين، اسمه وصورته على الحساب الرسمي من العصفور إلى الحرف "X"، كما وضع مالكه، الملياردير الأميركي، إيلون ماسك الشعار الجديد
المزيد ...
    توفي الكاتب الفرنسي التشيكي المولد الشهير ميلان كونديرا عن عمر ناهز 94 عاما، حسبما أكدت متحدثة باسم "مكتبة مورافيا" في مدينة برنو التشيكية نيابة عن زوجته. حيث
المزيد ...